من استمع أو قرأ نص خطاب نتنياهو الأخير قد يدرك حجم المعروف الذي أسداه إلينا هذا الرجل. ذلك أنه في خطابه أعلن صراحة دون أي تلميح أو مجاملات، عن موقفه وموقف حكومته من القضايا الأساسية والجوهرية عند الكثيرين من الفلسطينيين والعرب، خاصة ممن يتمسكون بالمفاوضات والمبادرات وعمليات التسوية حتى يصلوا إلى "سلام الشجعان ! ".
فلا مفاوضات حول القدس، بل ستبقى عاصمة أبدية لإسرائيل، ولا عودة للاجئين، بل تحل مشكلتهم خارج حدود إسرائيل. ولا توقف لعمليات الاستيطان. أما عن الدولة التي يطالب بها الفلسطينيون، فقد حدد معالمها بأنها ستكون في أماكن وجود الفلسطينيين (دون أن يحدد معالم وحدود هذه الدولة والتي يطالب بها العرب والفلسطينيون أن تكون ضمن حدود 67). بل وزاد، ودون أن ترسم حدود لهذه الدولة، وستكون منزوعة السلاح، وتقوم على ترتيبات أمنية ترتضيها إسرائيل (فلك أن تتخيل ما هذه الترتيبات الأمنية التي ترتضيها إسرائيل !). وأيضا، أن يعترف الفلسطينيون بإسرائيل كدولة يهودية، ما معناه ليس عدم عودة اللاجئين فحسب، بل حتى طرد الفلسطينيون الموجودون في إسرائيل والمعروفون بعرب الـ 48 أو عرب إسرائيل، ويقارب عددهم 1.5 مليون نسمة ويشكلون حوالي 20% من سكان إسرائيل !
أضف إلى كل ما سبق أنه وضع المفاوضات مع الفلسطينيين في المرتبة الثالثة ضمن سلم أولوياته بعد التهديد الإيراني والأزمة الاقتصادية !
كما أنه لم يتطرق للمبادرة العربية لا من قريب ولا من بعيد، ما يعد صفعة أخرى لمن لا يزالون يتمسكون بها. ثم ماذا تبقى من بنود المبادرة العربية أصلا حتى يتطرق لها ؟؟؟ فقد نسف جميع بنودها وشتت أحلام المتعلقون بها !
وعلى الرغم من أن ما أعلنه نتنياهو لم يكن سراً قد أفشاه، ولم يكن موقفا جديدا للتو تسلكه إسرائيل، بل هي سياسة عامة يؤمن بها ويتمسك بها ويسير على نهجها جميع القادة والرؤساء الإسرائيليون، السابقون منهم واللاحقون، ولا يختلف عنهم نتنياهو إلا بكونه أكثر صراحةً، وأكثر صدقا، وأشد وضوحاً، وأقل خداعاً ومجاملةً منهم !
ولئن قال الشاعر قديما عن الرجل:
ولئن يعادي عاقلا خير له . . . من أن يكون له صديق أحمقُ
فيحق لي أن أقول:
ولئن يعادي "واضحاً" خير له . . . من أن يكون له صديق "متلوّنُ" !
وإن كنت متأكداً من أن الكثيرين من الإسرائيليين منزعجين من صراحة نتنياهو هذه وصدقه وليس مما قاله، فأنا على يقين أيضا، من أن هذه الصراحة وهذا الصدق قد أزعج الكثيرين من العرب والفلسطينيين أكثر مما أزعج الإسرائيليين !
فبعد هذا الخطاب، ما هو مصير السلام ومفاوضات السلام وأهلها ومن لا يزالون يتعلقون بها ؟؟؟
وما هو مصير دول "الاعتدال" العربي والتي ليس في جعبتها غير المفاوضات حتى الوصول للسلام الشامل والكامل والعادل ؟؟؟
وما هو مصير المبادرة العربية بعد أن ألغت بالكامل من الطرف الإسرائيلي مرة أخرى، فهل لا يزال عند أهلها بقية من "ماء الوجه" حتى يبقوها مطروحة على الطاولة ؟؟؟
وما هو موقف "أهل المفاوضات" ومن اعتادوا على التكسب والترزّق من ورائها ؟؟؟ حتى أحدثت لهم مناصب ووظائف وأجريت لهم أجورا هائلة، على حساب جوع الفلسطينيين ؟؟؟ فهل سيبقون وتبقى مناصبهم وتتدفق عليهم الأموال بعد أن ألغت أعمالهم ؟؟؟ أم أنهم سيكملون "تمثيل المسرحية" حتى بعد أن علم "من لم يكن يعلم !" بأنهم مجرد "ممثلون" !
وعلى الرغم من أن "أهل المفاوضات" هم أعرف الناس بالتعنت الإسرائيلي و"الثوابت الإسرائيلية" التي لا يستطيع أي رئيس وزراء أن يتخلى عنها، على الرغم من علمهم بكل هذا وأكثر، إلا أنهم لم يعد لهم حجة الآن أمام شعوبهم حتى يظلوا يخدعون الناس بأن ما يقومون به سيوصلهم بالنهاية إلى جميع حقوقهم وحقوق الشعب الفلسطيني دون التخلي عن "الثوابت الوطنية" ! أي أن صراحة هذا الخطاب قد ضيقت عليهم الخناق أكثر.
فهل عرفتم حجم المعروف الذي أسداه إلينا نتنياهو ؟؟؟
هل عرفتم كم من الوقت كان سيوفر وكم من الأموال كان سيدخر لو كان من "أهل المفاوضات" رجل رشيد !
وهل عرفتم كم من رجل مخلص لقضيته لكنه كان يؤمن بالمفاوضات، قد انتشله نتن ياهو من هذا المستنقع الآسن !
وهل عرفتم كيف أصبح أهل المقاومة أقوى حجة من قبل !
بل هل عرفتم حجم المعروف الذي أسداه نتنياهو لصف المقاومة مقابل صف الاستسلامات ؟!
ورغم كل ذلك، إلا أنني مؤمن بأن أهل "المفاوضات" سيظلون متمسكون بمفاوضاتهم، وسيظل أهل المبادرة يطبلون لها، وسيظل أهل التسوية يدافعون عن استسلاماتهم ! ليس لشيء إلا لأنهم لا يحسنون غير هذا، ولما يتكسبون به من وراء أعمالهم هذه !
شكراً على صراحتك رغم أنك عدوي !
شكراً على صدقك مع أعدائك قبل أصدقائك !
شكراً على وفائك لشعبك ووطنك ومعتقدك !
نتنياهو. . شكراً، لأنك لم تحترم كل من لم يحترم وطنه !